رقائق تاريخية” للدكتور راغب السرجاني
الرقيقة السادسة
(هُجَيْمَةُ بِنْتُ حُيَيٍّ الوَصَّابِيَّةُ)
( أم الدرداء الصغرى)
نساء أعلام🏳👩🏻
بقلم/ إسراء القاسم
(مواقف نسائية يقتدي بها الرجال والنساء)
(هُجَيْمَةُ بِنْتُ حُيَيٍّ الوَصَّابِيَّةُ )
أم الدرداء الصغرى هي هُجَيْمَةُ -أو جُهَيْمَةُ- بِنْتُ حُيَيٍّ الوَصَّابِيَّةُ، زوجة أبي الدرداء، وسُمِّيت الصغرى للتَّفريق بينها وبين زوجته قبلها الصحابيَّةِ أم الدرداء الكبرى خَيْرَةَ بِنْتِ أَبِي حَدْرَدٍ.
كانت يتيمة، وتربَّت في كنف أبي الدرداء، وكانت وهي صغيرة تذهب معه إلى المسجد، وتجلس معه في حلقات القرَّاء، وأتمَّت حفظ القرآن على يديه.
تعلَّمت أم الدرداء الزهد وشدة العبادة والدوام عليها من زوجها أبي الدرداء:
“.. إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ سَلْمَانُ».
وأم الدرداء في هذه القصة هي الكبرى، وإنما ذكرنا القصة لأنها تبيِّن طبيعة أبي الدرداء
عَمِلَ أبو الدرداء معلِّمًا للقرآن لأهل الشام في زمن عمر، ثم ولي القضاء في دمشق لعثمان بن عفَّان، ومات في عام 32 هجرية، وماتت قبله أم الدرداء الكبرى، وعاشت أم الدرداء الصغرى (هجيمة) طويلًا بعده (ماتت في حدود سنة 90 هجرية)
جعلت أم الدرداء شغل حياتها في الذكر، وتعليم القرآن، وطول العبادة، ووضعت الآخرة نصب عينيها في كل لحظة.
عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنَّا نَأْتِي أُمَّ الدَّرْدَاءِ فَنَذْكُرُ اللهَ عِنْدَهَا، قَالَ: فَاتَّكَأَتْ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقِيلَ لَهَا: لَعَلَّنَا أَنْ نَكُونَ قَدْ أَمْلَلْنَاكِ يَا أُمَّ الدَّرْدَاءِ؟ فَجَلَسَتْ، فَقَالَتْ: «أَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ قَدْ أَمْلَلَتُمُونِي؟ قَدْ طَلَبْتُ الْعِبَادَةَ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَمَا وَجَدْتُ شَيْئًا أَشْفَى لِصَدْرِي، وَلَا أَحْرَى أَنْ أُدْرِكَ مَا أُرِيدُ، مِنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الذِّكْرِ».
«وعن إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ أَنَّهَا قَالَتْ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]، «وَإِنْ صَلَّيْتَ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وإن صُمْتَ فهو من ذكر الله، وَكُلُّ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَكُلُّ شرٍّ تَجْتَنِبَهُ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ تَسْبيحُ اللَّهِ».
لذلك روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ، فَقَالَ: «سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ».
والمفرِّدون هم من هلك أقرانهم، وانفردوا عنهم، ليس فقط لأنهم أكثروا في الحسنات، ولكن لأن الذكر مفتاح كل خير؛ فتجد صاحبه كثير العبادة، رقيق القلب، هادئ الطباع، سريع الفهم لمعاني القرآن والسُّنَّة، ظاهر الحكمة.
روى الترمذي وهو صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ».
(أم الدرداء الصغرى والانشغال بالذكر )
هذا الذكر هذَّب خلقها حتى صارت في أكمل الصور:
علَّمها أبو الدرداء العفو: عن إبراهيم بن أبي عَبْلة وهو من التابعين، عن أم الدرداء: أن رجلًا أتاها، فقال: إن رجلًا نال منك عند عبد الملك، فقالت: إن يؤثر بما ليس فينا، فطالما زُكِّينا بما ليس فينا.
علَّمها أبو الدرداء الحكمة: قال عبد ربه بن سليمان: كَتَبَتْ لي أُمُّ الدَّرْدَاءِ فِي لوحي فِيمَا تُعَلِّمُنِي: تَعلَّمُوا الْحِكْمَةَ صِغَارًا تَعْمَلُوا بِهَا كِبَارًا، وإِنَّ كلَّ زارعٍ حاصدٌ ما زَرَعَ مِنْ خيرٍ أَوْ شَرٍّ».
علَّمها أبو الدرداء الأدب: روى مسلم عن طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ كَرِيزٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ الدَّرْدَاءِ، قَالَتْ: حَدَّثَنِي سَيِّدِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ”.
قول أم الدرداء: “حدثني سيدي أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” يعنى أبا الدرداء. فيه جواز دعوى المرأة زوجها سيدي، وتعظيم المرأة زوجها وتوقيره.
قول أم الدرداء: حدثني سيدي أبو الدرداء، أرادت معنى السيادة تعظيما له أو أرادت ملك الزوجية من قوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25].
علَّمها أبو الدرداء الانشغال بترتيب وضعها في الآخرة: روى الطبراني وهو صحيح عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ الْكِلَابِيِّ قَالَ: خَطَبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أُمَّ الدَّرْدَاءِ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ فَهِيَ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا»، وَمَا كُنْتُ لِأَخْتَارَكَ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَكَتَبَ إِلَيْهَا مُعَاوِيَةُ: فَعَلَيْكِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ مَحْسَمَةٌ.
وكذا فعلت مع عبد الملك بن مروان.
وعن حُذَيفَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أنَّه قال لامرأَتِه: إن سَرَّكِ أن تَكُونِي زَوجَتِي في الجَنَّةِ فلا تَزَوَّجِي بَعدِي؛ فإِنَّ المَرأَةَ في الجَنَّةِ لِآخِرِ أزواجِها في الدُّنيا، فلِذَلِكَ حَرُمَ على أزواجِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن يَنكِحنَ بَعدَه؛ لأنَّهُنَّ أزواجُه في الجَنَّةِ.
خلاصة القول لن يكون المرء مواظبًا على الذكر إلا بأوراد ثابتة، ومحاسبة يومية للنفس، ويظل المرء على هذه المداومة حتى يصبح له الذكر عادة، فعند ذلك تتغيَّر حياته، ولا ينسى الذكر.
انتظروا الرقيقة السابعة