آخر الأخبارمنوعات

“شيفتات الفراعنة”.. تعرف علي كيف أسس المصري القديم أول نظام عمل في التاريخ

this is aad

ربما لا يعرف كثيرون أن فكرة “الشيفت” أو العمل بنظام الورديات ليست من اختراعات العصر الحديث، بل عرفها المصري القديم قبل آلاف السنين، فقد اعتمدت الدولة المصرية القديمة نظام التناوب في العمل، حيث يُرسل العمال في حملات عمل تمتد لثلاثة أشهر، ثم يعودون بعدها إلى أراضيهم للاهتمام بالزراعة، في توازن ذكي بين الإنتاج المعماري والزراعي.

لم يكن العمل في مصر القديمة مجرد وسيلة للكسب أو البقاء، بل كان فلسفة حياة ومصدر فخر واعتزاز للمصريين، الذين آمنوا بقيمته وقداسته، وعلى أكتاف هؤلاء العمال، لا على عروش الملوك وحدهم، شُيّدت أعظم حضارات العالم، وازدهرت ملامح دولة ما زالت تبهر العالم حتى اليوم.

آمن المصري القديم بأن العمل رسالة وطنية وواجب ديني، فامتلأت النصوص القديمة بالحضّ على الإتقان والكد، واعتُبر التراخي والكسل أمرًا مذمومًا، ووفقًا لتقرير أعدته هيئة الإذاعة البريطانية BBC، كانت الثقافة المصرية القديمة تُمجّد العامل المجتهد وتربط بين جودة العمل والثواب في الدنيا والآخرة.

من أبرز الأدلة على وعي مصر القديمة بحقوق العمال، بردية “دير المدينة” الشهيرة من عهد الدولة الحديثة، والتي توثق أول إضراب عمالي في التاريخ، حيث احتج العمال على تأخير أجورهم، ورفعوا مطالبهم إلى كبار المسؤولين الذين استجابوا لها، في مشهد يعكس إدراك الدولة لأهمية العدالة الاجتماعية.

رغم النظام الطبقي الذي عرفه المجتمع، إلا أن العامل لم يكن مهمّشًا، فالحرفيون والعمال نالوا تقدير الدولة، وحصلوا على أجور تُصرف في صورة غذاء وكساء، كما وفّرت لهم الدولة مساكن خاصة في مناطق العمل، بحسب نقوش تعود لعصر رمسيس الثاني.

لم يكن العامل مجرد أداة تنفيذ، بل كان شريكًا حقيقيًا في بناء الدولة، وقد كرّمه الملوك والمسؤولون، أحد كبار رجال الدولة في الأسرة الرابعة، ويدعى “منى”، ذكر في نقوشه كيف كافأ العمال على تشييد مقبرته، في وقت أسّس فيه الملك أمنحتب الأول طائفة خاصة من الفنانين والعمال في دير المدينة وفّر لها كل سبل العيش.

لم تغفل مصر القديمة عن أهمية الانضباط في بيئة العمل، فاستُخدمت ألواح الفخار الأوستراكا لتسجيل الغياب وأسبابه، التي كانت تشمل أعذارًا إنسانية مثل المرض، أو حتى غضب الزوجة، ما يعكس توازنًا بين الرقابة والتفهم.

شهدت مصر القديمة أولى الثورات الاجتماعية في التاريخ، أبرزها خلال نهاية عهد الملك بيبي الثاني، ثم في عصر رمسيس الثالث، حيث رفض العمال استئناف العمل حتى صرف أجورهم، فاستجابت الدولة، وعوقب المسؤولون الفاسدون، ما يعكس وعيًا مبكرًا بالحقوق العمالية.

الاكتشافات الحديثة نسفت فكرة أن الأهرامات بُنيت بسواعد العبيد، فقد كشفت مقابر قرب هضبة الجيزة عن مدافن لعمال البناء، مزودة بالغذاء ووسائل الراحة، وقد وُثقت وسائل البناء التقليدية كالزلاجات والحبال في نقوش مقبرة الوزير “رخمي رع”، مما يؤكد أن هؤلاء العمال كانوا مهرة ويحظون بالاحترام.

عُثر على جبّانتين منفصلتين لعمال الأهرام، واحدة لكبار الحرفيين، وأخرى للعمال، في دلالة على التنظيم والاحترام، كما دلت بقايا الطعام والأسماك وجرار الماء على أن هؤلاء العمال كانوا يتمتعون بحياة مستقرة.

اتبعت الدولة نظام التناوب، حيث يعمل العمال في حملات تمتد لثلاثة أشهر، ثم يعودون لأراضيهم، كما أظهرت الدراسات الأثرية اهتمامًا بالصحة، حيث تلقى العمال علاجًا طبّيًا، بل وخضع بعضهم لعمليات جراحية بسيطة.

ربط المصري القديم بين العمل والعبادة، معتبرًا خدمة الملك بوصفه ممثلًا للآلهة عبادة خالصة، وكان يؤمن أن الإخلاص في العمل طريق للجنة وحياة أبدية، لذلك كان الإتقان واجبًا دينيًا بقدر ما هو مسؤولية دنيوية.

وسط صرخات الحفر ونبضات المطارق على الحجارة، وُلدت حضارة ما زالت تروي للعالم قصة شعب عرف معنى العمل، وقدّس من بذل فيه الجهد والعرق، إنها قصة عمال مصر القديمة بناة المجد الحقيقيون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى